سورة آل عمران - تفسير تفسير الشعراوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (آل عمران)


        


{وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)}
ولنلاحظ دائما أن الله حين يبين جزاءً لمؤمن على إيمانه وطاعته فسبحانه يقول مرة: {أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف: 42].
ومرة أخرى يقول: {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ بالله واعتصموا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} [النساء: 175].
ما الفرق بين الاثنين؟ إن الناس في العبادة صنفان: منهم من يعبد الله ويريد نعيم الجنة، فيعطيه الله الجنة جزاء لعبادته ولعمله الصالح. وآخر يعبد الله؛ لأن الله يستحق العبادة ولا تمر الجنة على باله، وهذا ينال ذات الرحمة، إنه ينال لقاء وجه الله.
وما الفرق بين الجنة والرحمة؟ إن الجنة مخلوقة لله، فهي باقية بإبقاء الله لها، ولكن الرحمة باقية ببقاء الله، وهذا ضمان كاف، فمن يرى الله فيه حسن العبادة لذاته سبحانه يضع الله في الرحمة.
وقلنا من قبل: إن هناك جنة من الجنات اسمها (عليّون) ليس فيها متعة من المتع التي سمعنا عنها في الجنة، كلحم الطير وغير ذلك، وليس فيها إلا أن ترى الله. وما دام العبد لا يأكل عن جوع في الآخرة، فما الأفضل له، جنة المتع، أو متعة رؤية وجه الله؟
أتتمتع بالنعمة أم بالمنعم؟ لا جدال أن التمتع برؤية المنعم أرقى وأسمى من التمتع بالمتع الأخرى. والدقة الأدائية في القرآن توضح لنا أن الرحمة تكتنف هؤلاء العباد الصالحين، وتحيط بهم، إنهم ظرف للرحمة وداخلون فيها فلا تمسهم الرحمة فقط، ولكن تحيط بهم، وهم خالدون فيها، ويؤكدها الحق بظرفية جديدة بقوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} فكأن هناك رحمة يُدخل فيها العباد، ثم يطمئننا على أنها لا تُنزع منا أبدا. ف (فيها) الثانية للخلود، (وفي) الأولى للدخول في الرحمة.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق...}.


{تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108)}
إن آيات الله هي حججه وبراهينه وجزاءاته، فمن اسود وجهه يوم القيامة نال العذاب، ومن ابيض وجهه نال الرحمة وهو فيها خالد {تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق}، فما الذي يجعل إنسانا لا يخبر بالحق؟ لابد أن هناك داعيا عند ذلك الإنسان، فلأِنّ الحق يُتبعه، فهو يخبر بغير الحق. لكن هل هناك ما يتعب الخالق؟ لا؛ فسبحانه وتعالى منزه عن ذلك وعن كل نقص أو عيب إذن فلابد ألاّ يقول إلا الحق، فلا شيء خارج عن ملكه بعد ذلك. يقول سبحانه: {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ}. إنه سبحانه ينفي الظلم عن نفسه كما قال: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46].
والحق لا يريد الظلم على إطلاقه من نفسه ومنكم أنتم أيها العباد. وكيف يأتي الظلم؟ إن مظاهر الظلم هي- كما نعرف- أن تأخذ إنسانا بغير جرم.. هذا ظلم. أو ألا تعطي إنسانا مستوى إحسانه.. هذا ظلم. وماذا يفعل من يقوم بالظلم؟ إنه يريد أن يعود الأمر بالنفع له، فإن كان يريد أَخْذَ إنسانٍ بغير جرم فهو يفعل ذلك ليروي حقدا وغلا في نفسه، وقد يلفق لإنسان جرما؛ لأنه يرى أن هذا الإنسان قد يهدده في أي مصلحة من المصالح، وهو يعلم انحرافه فيها، فيعتقله مثلا، أو يضعه في السجن حتى لا يفضحه.
إذن لا يمكن أن يذهب إنسان عن الحق إلى الظلم إلا وهو يريد أن يحقق منفعة أو يدفع عن نفسه ضررا، والله لن يحقق لذاته منفعة بظلم، أو يدفع ضررا يقع من خلقه عليه؛ إنه منزه عن ذلك؛ فهو القاهر فوق عباده. والحديث القدسي يقول: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي. وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا).
والظالم من البشر جاهل. لماذا؟ لأنه قَوَّى الذي ظلمه، ولم يضعفه، فالظالم يظلم ليضعف المظلوم أمامه، فنقول له: أنت غبي، قليل الذكاء؛ لأنك قويته على نفسك وفعلت عكس ما تريد. ولنوضحْ ذلك- ولله المثل الأعلى- نحن جميعا عيال الله، سننتقل إلى دائرة حياتنا اليومية ونرى عيالنا، إن الواحد منا عندما يكون له أولاد، وجاء ولد من الأولاد وظلم أخاه فَقَلْبُ الوالد يكون مع المظلوم، ويحاول الوالد أن يترضّى ابنه المظلوم. إذن فالولد الظالم ضر أخاه ضررا يناسب طفولته، ولكنه أعطاه نفعا يناسب قوة والده، إنه يجهل حقيقة تقويته لأخيه.
وما دمنا جميعا عيال الله فماذا يفعل الله حين يرى سبحانه واحدا من خلقه يظلم آخر من خلقه؟ لابد أن الحق سيشمل المظلوم برعايته، وهكذا يقوى الظالم المظلومَ، والظالم بذلك يعلن عن غبائه، فلو كان ذكيا، لم ظلم، ولضنّ على عدوه أن يظلمه، ولقال: إنه لا يستأهل أن أظلمه؛ لأنه عن طريق ظلمى له سيعطيه الله مكافأة كبرى، وهي أن يجعله في كنفه ورعايته مباشرة.
وقد نجد واحدا يظلم من أجل نفع عاجل، وينسى هذا الإنسان أنه لن يشرد أبدا ممن خلقه. ونقول لمثل هذا الإنسان: أنت لن تشرد ممن خلقك، ولكنك شردت من المخلوق وداريت نفسك، وحاولت أن تحقق النفع العاجل لنفسك، لكن الخالق قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم. وكأن الحق سبحانه يطمئننا بأن ننام ملء جفوننا لأنه سبحانه لا تأخذه سنة ولا نوم.
{وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ} لأن الظلم لا ينشأ إلا عن إرادة نفعية بغير حق، أو إرادة الضرر بغير جرم، والله غني عن ذلك، ولذلك نجد الحق يؤكد غناه عن الخلق وأنه مالك للكون كله فيقول: {وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض...}.


{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)}
إنه مالك الملك، كل شيء له وبه وملكه، وإليه يُرجع كل أمر. ونحن نعلم أن القرآن الكريم قد نزل من عند الله بقراءات متعددة وقد ورد وفي بعضها (تَرجِعُ الأمور) بفتح التاء بالبناء للفاعل، وفي قراءة أخرى: (ترجِعُ الأمور) بضم التاء بالبناء للمفعول، وكذلك (ترجعون) تأتي أيضا بضم التاء وفتحها، وكلها- كما قلنا- قراءات من عند الله.
وعندما يقول الحق: {وَإِلَيْه ترْجَعُونَ} بفتح التاء فمعنى ذلك أننا نعود إليه مختارين؛ لأن المؤمن يُحبُّ ويرغب أنْ يصل إلى الآخرة، لأن عمله طيب في الدنيا، فكأنه يجري ويسارع إلى الآخرة، ومرة يقول تعالى: {وَإِلَيْه تُرْجَعُونَ} بضم التاء. وهذا ينطبق على الكافر أو العاصي. إنّ كُلاًّ منهما يحاول ألا يذهب إلى الآخر، لكن المسألة ليست بإرادته، إنه مقهور على العودة إلى الآخرة ولذلك نجد التعبير القرآني: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور: 13].
هناك من يدفعهم إلى النار دفعا. وفي حياتنا- ولله المثل الأعلى- نجد الشرطي يمسك بالمجرم من ملابسة ويدفعه إلى السجن.. ذلك هو الدع. وهكذا يكون قول الحق: {وَإِلَيْه تُرْجَعُونَ} بضم التاء وفتح الجيم، أي أنه مدفوع بقوة قاهرة إلى النهاية. أما المؤمن الواثق فهو يهرول إلى آخرته مشتاقا لوجه ربه.
وعندما تقرأ {وإلى الله تُرْجَعُ الأمور}. قد يقول قائل: ومتى خرجت الأمور منه حتى ترجع إليه؟ ونقول: حين خلق الله الدنيا، خلقها بقهر تسخيري لنفع الإنسان، وجعل فيها أشياء بالأسباب، فإن فعل الإنسان السبب فإنه يأخذ المسبب- بفتح الباء- المشددة، فالشمس تشرق علينا جميعا، والضوء والدفء والحرارة، هي- بأمر الله- للمؤمن والكافر معا، ولم يصدر الله لها أمرا أن تختص المؤمن وحده بمزاياها، والهواء لا يمر على المؤمن وحده، إنما يمر على المؤمن والكافر، وكذلك الماء، والأرض يزرعها الكافر فيأخذ منها الثمار، ويزرعها المؤمن كذلك.
إذن ففي الكون أشياء تسخيرية، وهي التي لا تدخل فيها طاقة الإنسان، وهناك أشياء سببية، فإن فعلت السبب يأت لك المسبب، والله قد جعل الأسباب للمؤمن والكافر. وعندما يُمَلِّك الله بعض الخلق أسباب الخلق فهو القيوم فوق الجميع، لكن في الآخرة، فلا أسباب ولا مسببات؛ ولذلك يكون الأمر له وحده، اقرأوا جيدا: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16].
إنّ في الدنيا أناسا- بإرادة الله- تملك أسبابا، وتملك عبيدا، وتملك سلطانا؛ لأن الدنيا هي دنيا الأسباب. أما في الآخرة فلا مجال لذلك. لقد بدأت الدنيا بأسبابها مِنَّة منه، ورجعت مِنْهُ إليه {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} ومن يعتز بالسببية نقول له: كن أسير السببية لو كنت تستطيع. ومن يعتز بالقوة لأنها- ظاهرا- سبب للحركة، نقول له: احتفظ بقوتك إن كنت قادرا. ومن يعتز بالملك نقول له: لتحتفظ بالملك لو كنت تستطيع. ولا أحد بقادر على أَنْ يحتفظ بأي شيء، فكل شيء مرده إلى الله، وإن كان في ظاهر الأمر أن بعض الأشياء لك الآن، وفي الآخرة لله يكون كل أمر، ويرجع إليه كل شيء، لقد بدأت به، ورجعت إليه. ويقول الحق بعد ذلك: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر...}.

32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39